ولا أنا أديــــــنك
القديس أغسطينوس
لنتأمل الآن كيف تم أختبار لطف الرب ووداعته بواسطة أعدائه.
"وقدم إليه الكتبة والفريسيون امرأة أُمسكت في زنا. ولما أقاموها في الوسط قالوا له: "يا مُعلم هذه المرأة أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل. وموسى في الناموس أوصانا أنَّ مثل هذه تُرجَم. فماذا تقول أنت. قالوا هذا ليجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه" (يو 8)
يشتكون عليه بماذا؟ هل قبضوا عليه في جريمة ما؟ أم كانت لهذه المرأة أي صلة به بأي شكل من الأشكال؟! ما الذي يعنيه إذن بقوله: "ليجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه"؟
نستنتج أيها الأخوة أنه كان واضحاً جداً في شخص الرب لطفه البديع ووداعته. لقد لاحظوا أنه شخص نبيل جداً، لطيف وكريم للغاية. هذا هو ما تنبأ عنه المزمور من قبل قائلاً: "تقلد سيفك على جنبك أيها الجبار بالجلال والبهاء. سر وأركب. في سبيل الحق والدعة والبر" (مز 45).
يُحضر الحق كمعلم، والوداعة كمخلص، والبر كمدافع.
لهذا تنبأ النبي أنه سوف يملك في الروح القدس (إش 11). عندما كان المسيح يتكلم كان الحق يُدرَك، عندما كان لا يثور ضد أعدائه، كانت الوداعة تُمدح. لذلك، بما أن أعداءه كانوا يتعذبون بالحسد والغيرة بسبب هذين السمتين – أي الحق والوداعة – وضعوا له حجر عثرة في السمة الثالثة - أعني البر (العدل).
لماذا؟ لأن الناموس قد أمر برجم الزناة، وبطبيعة الحال، لا يمكن أن يأمر الناموس بشيء غير عادل، وبالتالي إن قال أي أحد شيئاً مخالفاً لما أمر به الناموس، يُحسب كشخص غير عادل. لذا، قالوا بعضهم لبعض: "أنه يُعتبر شخصاً صادقاً، أنه يبدو وديعاً، يجب أن نحاول تشويه سمعته في مسألة العدل. هلم نقدم له امرأة أمسكت في زنا، ونقول له ما تم اقراره عنها في الناموس. إن أمر برجمها لا يكون لديه وداعة، وإن حكم بمسامحتها، لا يكون لديه عدل. لكنه سوف يحكم بلا شك بمسامحتها والعفو عنها حتى لا يفقد وداعته التي صار بسببها محبوباً الآن من الشعب. ومن ثم، تسنح لنا الفرصة لتوجيه التهمة له، ونجعله مذنباً بتعديه على الناموس. قائلين له: أنت عدو الناموس، أنت تخالف موسى - كلا بل تخالف ذاك الذي أعطى الناموس بواسطة موسى. أنت مذنب وتستحق الموت، ويجب أن تُرجم أنت أيضاً معها".
من خلال هذه الكلمات وهذه الأفكار يشتعل الحسد، ويهتاج الاتهام، وتُطلب الادانة.
ولمن يفعلون ذلك؟! نجد هنا الانحراف أمام الاستقامة، والباطل أمام الحق، وقلب فاسد أمام قلب مستقيم، والغباء أمام الحكمة. إذ كيف يمكنهم أن يعدوا فخاخاً دون حشر رؤوسهم فيها أولاً؟! تأملوا جواب الرب، فهو سوف يحافظ على العدل دون أن يحيد عن الوداعة. الذي بُسطت له الشبكة لم يُمسك فيها، وبدلاً من ذلك أمسك فيها الذين كانوا يبسطونها له، لأنهم لم يؤمنوا بمن يستطيع اقتلاعهم من الفخاخ.
بماذا أجاب الرب يسوع إذاً؟ بماذا أجاب الحق؟ بماذا أجاب الحكمة؟ بماذا أجاب العدل ذاته الذي كانت تدبَّر ضده الوقيعة؟
لم يقل: "لا يجب أن ترجم"، حتى لا يبدو كلامه مخالفاً للناموس. وحاشا أن يقول: "فلترجم المرأة!"، لأنه جاء لا ليهدم، بل "لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو 19: 11).
بماذا أجاب إذاً؟ تأملوا جوابه الممتلئ بالعدل والوداعة والحق.
أجاب الرب: "من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر".
يا لجواب الحكمة! بهذا الجواب ردهم إلى أنفسهم! إذ أنهم كانوا يفترون خارجياً، دون أن يفحصوا أنفسهم داخلياً. لقد رأوا زانية لكنهم لم ينظروا بعناية إلى أنفسهم. المخالفين للناموس أرادوا تتميم الناموس، بدافع الافتراء لا بإخلاص، كما لو أنهم يحكمون على الزنا بقلب عفيف.
آه أيها اليهود لقد سمعتم، أيها الفريسيين لقد سمعتم، يا معلمي الناموس لقد سمعتم حارس الناموس، لكنكم لم تفهموا حتى الآن مُشرِّع الناموس. بماذا كان يشير الرب إليكم عندما كان يكتب بأصبعه على الأرض؟ لقد كُتب الناموس بأصبع الله، ولأنهم كانوا شعب قاسي القلب كُتب على حجر (خر 31). أما الآن فالرب يكتب على الأرض، لأنه يطلب الثمر.
لقد سمعتم، ليكن الناموس مطبقاً، لترجم الزانية، لكن هل في معاقبتها يطبَّق الناموس بواسطة أولئك الذين ينبغي معاقبتهم؟ لينتبه كل واحد منكم إلى حاله، ليدخل إلى نفسه، ليذهب إلى محكمة عقله، وليجبر نفسه على الاعتراف. فهو يعرف ذاته، "لأن مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه" (1 كو 11:2). كل واحد منهم بالنظر إلى نفسه وجد نفسه خاطئاً. نعم، حقاً. وبالتالي، إما أن يعفو عن المرأة، أو أن يقبل عقوبة الناموس سوياً معها.
إذا كان قد قال: "لا ترجموا الزانية!"، لكان قد برهن على أنه غير عادل، وإذا كان قد قال: "لترجم الزانية"، لكان قد ظهر أنه بلا وداعة. ليقل إذاً ما يجب قوله، فهو وديع وعادل على حد سواء. "من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر". هذا هو صوت العدل. لتعاقب المرأة التي أخطأت، لكن ليس بواسطة خطاة، ليُنفَّذ الناموس لكن ليس بواسطة مخالفين للناموس. هذا هو بالتأكيد صوت العدل. وعندما ضُربوا هكذا بهذا العدل كما ولو برمح نافذ، كانت ضمائرهم تبكتهم وعلموا أنهم خطاة، ومن ثم "خرجوا واحداً فواحدا".
وبقي فقط أثنين، المرأة المتُحنن عليها، والحنان ذاته.
وعندما ضربهم الرب برمح العدالة، تنازل الرب ولم ينظر إليهم في انهيارهم، لكنه حول نظره عنهم، إذ "أنحنى أيضاً إلى أسفل وكان يكتب على الأرض".
والآن بعد أن ترك الجميع المكان وبقيت المرأة وحدها، رفع الرب عينيه إلى المرأة. لقد سمعنا صوت العدل، لنسمع الآن صوت اللطف والوداعة. على ما أعتقد، أن هذه المرأة قد أرتعبت بالأكثر عندما سمعت الرب يقول: "من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر".
أما هم فبعد أن رجعوا إلى أنفسهم وأعترفوا بذنبهم بالمغادرة ذاتها، تركوا المرأة بخطيئتها الضخمة لذاك الذي وحده بلا خطية. ولكونها سمعت هذا الحكم "من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر"، توقعت أن تُعاقب بواسطة ذاك الذي ليس فيه خطية. ولكن الرب الذي صدَّ خصومه بلسان العدل، سأل المرأة وهو ينظر إليها بعيني اللطف والوداعة: "أما دانك أحد؟". أجابته: "لا أحد يا سيد". "فقال لها يسوع: ولا أنا أدينك". من كانت تخشى أن تدان بواسطته لأنه بلا خطية قال لها: "ولا أنا أدينك".
ماذا يعني ذلك يارب؟
هل بذلك توافق على الخطايا؟
بالتأكيد لا.
لننتبه لما يتبع: "أذهبي ولا تخطئي أيضاً". هكذا أدان الرب، أدان الخطية لا الشخص. لأنه إذا كان يؤيد الخطية، لكان قد قال: "ولا أنا أدينك، أذهبي وأسلكي كما تريدين. لا تقلقلي بشأن تحريري. فسوف أحررك من عقوبة جهنم والعذاب في الجحيم مهما كثرت خطاياكِ". لم يقل الرب هذا.
لينتبه إذاً أولئك الذين يحبون صفة الوداعة في الرب ويخافون من الحق.
"الرب صالح ومستقيم" (مز 8:25). أنت تحبه لأنه صالح وحلو، لتخف لأنه أيضاً بار ومستقيم. كشخص لطيف قال: "سكتُّ مطولاً وصَمَتُّ"، وكشخص عادل قال: "فهل أصمت دائماً؟" (إش 42: 15 س). "أما أنت يارب فإله رحيم ورؤوف" (مز 86)، نعم حقاً هو كذلك، وأضف أيضاً "طويل الروح"، وأضف أيضاً "كثير الرحمة"، لكن أخشى مما يأتي بعد ذلك: "ووافر الحق". بالنسبة لأولئك الذين يتحملهم الآن كخطاة، سوف يدينهم آنذاك كمحتقرين. "أم تستهين بغنى لُطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أنَّ لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تَذخرُ لنفسك غضباً في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة، الذي سيجازي كل واحد حسب أعماله" (رو 2).
أنه ربُ لطيف ووديع، ربُ طويل الروح، ربُ رحيم، لكنه أيضاً ربُ عادل وربُ صادق. لقد مُنحت لك فترة من الوقت للتصحيح، لكنك تحب المماطلة أكثر من تعديل سلوكك.
هل كنت شريراً بالأمس؟ كن باراً اليوم.
هل قضيت هذا اليوم في الشر؟ على الأقل تغيَّر غداً.
أنت تؤجل دائماً، وتعد نفسك بالكثير من رحمة الله، كما لو أن ذاك الذي وعدك بالمغفرة - من خلال توبتك - وعدك أيضاً بعمر طويل. كيف تعرف ما قد يأتي به غداً؟ أنت تقول في قلبك وبحق: "عندما أصحح نفسي، سوف يغفر لي الله جميع خطاياي". نحن لا ننكر وعد الله بالمغفرة لأولئك الذين تابوا وغيروا من حياتهم. لكن مع وعود الرب بالمغفرة عند التوبة، لا نجد أيضاً أنه وعدك بعمر مديد وحياة طويلة.
إذاً، الإنسان معرض للخطر من قبل أمرين، من قبل الأمل ومن قبل اليأس، من مشاعر متناقضة. من هذا الذي يُخدع بالأمل؟ ذلك الذي يقول، الله صالح، الله رحيم، لأفعل ما أريد، لأفعل ما يحلو لي، لأتصرف كما أشاء، لأرخي لجام رغباتي وأتمم ما تشتهيه نفسي. لماذا؟ لأن الله رحيم، الله صالح، الله وديع. مثل هذا الإنسان مُعرض للخطر بواسطة الأمل.
ومعرض للخطر من خلال اليأس، أولئك الذين بعد أن سقطوا في خطايا صعبة، يفكرون في أنفسهم أنه حتى ولو تابوا لن يمكنهم الحصول على الغفران، فيقررون أنهم مقدر لهم اللعنة بلا شك، ويقولون لأنفسهم: والآن بما أننا بالتأكيد مدانين، لماذا لا نفعل إذاً ما نريد؟ ومن ثم يتصرفون كالمصارعين المحكوم عليهم بحد السيف. هكذا يكون اليائس مقلقاً ومزعاً، إذ ليس عنده ما يخشاه، لذا وجب الحرص منه.
اليأس يقتل، والأمل يقتل. والعقل يتذبذب بين الأمل واليأس. يجب أن تخاف لئلا يذبحك الأمل، وبينما تتوقع الكثير جداً من الرحمة تقع في الدينونة. وأيضاً يجب أن تخاف لئلا يذبحك اليأس، وبينما تظن أنك لا تستطيع الحصول على الغفران الآن من جراء خطاياك الخطيرة التي أرتكبتها، لا تسعى لتقديم أعمال التوبة، فتقابل الديان – الحكمة – الذي يقول: "فأنا أيضاً أضحك عند بليتكم" (أم 1).
ماذا يفعل الرب إذاً مع أولئك المعرضين لهذه الأمراض؟ لأولئك المعرضين لخطر الأمل، يقول: "لا تؤخِّر التوبة إلى الرب، ولا تؤجل من يوم إلى يوم. فإنَّ غضب الرب ينفجر بغتةً، فتستأصلُ في يوم العقاب" (سيراخ 5). ولأولئك المعرضين لخطر اليأس، ماذا يقول؟ "والشرير، إذا رجع عن جميع خطاياه التي صنعها وحفظ جميع فرائضي وأجرى الحق والبر، فإنه يحيا حياة ولا يموت. جميع معاصيه التي صنعها لا تُذكر له". إذاً لأولئك المعرضين لخطر اليأس، قدَّم ميناء المغفرة، ولأولئك المعرضين لخطر الأمل والتأجيل، جعل يوم الموت غير معلوم. أنت لا تعرف متى يأتي يومك الأخير. فهل تكون ناكراً للجميل لأنه مازال يسمح لك باليوم، الذي فيه يمكنك تصحيح نفسك؟!
لذا قال للمراة: "ولا أنا أدينك"، ها قد حررتك من الماضي، أحذرِ أذاً من المستقبل.
"ولا أنا أدينك"، لقد محوت ما أرتكبتيه من معاصي، أحفظي كل ما أوصيت به، حتى تحصلي على ما وعدت به.
Reference: The Fathers of the Church Series, Volume 88, Augustine, Tractates on the Gospel of John, Catholic University of America