السبت، 10 مايو 2014

معيار عدم التشابه وتاريخية يسوع

أول من قدم معيار عدم التشابه Criteria of Dissimilarity هو اللاهوتى اللوثرى إرنست كازمان Ernst Käsemann (1906-1998) لتحديد الأقوال الأصلية ليسوع (التطبيق السلبى للمعيار كما سنوضح فيما بعد). ومعيار عدم التشابه له شكلين: معيار التمييز عن اليهودية ‘criteria of distinction from Judaism’(CDJ )  ومعيار التمييز عن المسيحية ‘Criteria of distinction from Christianity‘(CDC) ويمكن استخدام الشكلين معاً ويُسمى حينها معيار عدم التشابه المزدوج  criteria of double dissimilarity (CDD)، وقد كان رودلف بولتمان من أوائل مستخدمى معيار عدم التشابه المزدوج (CDD).

ولهذا المعيار تطبيقان. أولهما التطبيق السلبى للمعيار، وقد تمثل ذلك فى تحديد المواد الأصلية ليسوع authentic materials،ف أقوال يسوع الأصلية هى تلك الأقوال التى لا تشابه الأخلاق والتقوى اليهودية المعاصرة له من جهة (CDJ) ولا التعاليم المسيحية التى تبنتها الكنيسة الأولى من جهة أخرى (CDC). والسبب وراء هذا الاستخدام السلبى للمعيار هو أنه لو كان القول المنسوب ليسوع لا يشابه التعاليم اليهودية السابقة له، سيكون حينها من الأرجح أنه قوله الذى لم يسبقه إليه أحد. وإن كانت الكنيسة الأولى لم تتبن هذا القول، فعندئذ سيكون من المؤكد أنها لم تخترعه ووتضعه على لسان يسوع. وبالتالى فالقول الحقيقى الصحيح النسب ليسوع هو القول الذى يخالف اليهودية والمسيحية !!

المشكلة الرئيسية التى تنتج عن هذا التطبيق السلبى للمعيار، هو أن يسوع حينها سيكون شخصًا غريبًا، لم يتأثر بسابقيه ولم يؤثر فى تابعيه !! يقول داريل بوك: "لو بُرهن على كلا جانبى عدم التشابه [يقصد الاختلاف مع اليهودية والمسيحية]، بحيث يختلف يسوع عن اليهودية والكنيسة الأولى، عندئذ سيصبح يسوع شخص غريب بالتأكيد، منفصلاً تماماً عن تراثه الثقافى ومنعزلاً  فكريا (ايديولوجيًا) عن الحركة التى كان مسئولاً عن تأسيسها. بل إن المرء يتعجب كيف أُخذت شخصيته على محمل الجد. هو سيصبح غريب الأطوار لو اُعتبر فقط ما هو مختلف هو الأصيل. هذا المعيار يساعدنا على معرفة تعاليم يسوع الاستثنائية لكنه لا يمكن أن يعطينا يسوع الأساسى the essential Jesus"[1] 
يرفض معظم العلماء والدارسين التطبيق السلبى للمعيار، ويرون أن يسوع التاريخى لا يُمكن أن يُفهم خارج الإطار اليهودى والمسيحى المبكر.[2]    

التطبيق السلبى وُضع ليحدد كلمات يسوع الأصلية، ويُحصر الحكم فى اختيارين: كلمات أصلية authentic وكلمات غير أصلية unauthentic، بينما التطبيق الإيجابى لهذا المعيار وسع دائرة الاختيارات إلى: قول أصلى authentic، محتمل أن يكون القول أصليًا  possibly authentic، قول غير أصلى non-authentic، والاحتمال الآخير  هو أضعف الاحتمالات لأننا لا نعرف بالضبط طبيعة اليهودية القديمة والمسيحية المبكرة.[3]   

وفى هذا المقال سأنظرّ لإتساع مجال التطبيق الإيجابى لهذا المعيار، بحيث يتجاوز البحث عن كلمات يسوع الأصلية للبحث عن الأحداث المرتبطة بيسوع. فهناك مبدأ تاريخى بأن عدم التشابه فى التفاصيل بين الشهود عن حدث ما، هو دليل على تعددية الشهادات، ومن ثمَّ على وجود حدث تاريخى، وهذا ما سوف أسميه "معيار عدم التشابه الوثائقى".

هذا المعيار يدعم الموثوقية التاريخية للأناجيل الأربعة، يقول الدكتور حسن عثمان:  "الاتفاق الصحيح بين مصدرين مستقلين لا يكون -فى الغالب- بتشابههما المطلق، ولكن بإتفاقهما وتشابههما فى مواضع وبتفاوتهما واختلافهما فى مواضع أخرى."[4] أى أنه من الطبيعى وجود اختلافات فى التفاصيل بين المصادر التاريخية فى روايتها عن حدث ما. ومن ثمَّ تصير الاختلافات فى التفاصيل بين الأناجيل الأربعة دليل على صحتها لا دليل على إدانتها.

وفى هذا المقال سنتعامل مع الأناجيل الأربعة بإعتبارها وثائق تاريخية روت لنا عن حدث معين، وعند تطبيق معيارنا على روايات الأناجيل الأربعة سنجد عدم تشابه فى التفاصيل مما يدلل على صحة حدوث هذا الحدث المعين.

فمثلاً عند مقارنة قصة القيامة بين الأناجيل الأربعة نجد اختلافات فى التفاصيل، لكنها لا تؤثر على جوهر الرواية أو تشكك فى حدوث القيامة. شكك إيرمان فى قيامة المسيح بناءً على الاختلافات بين الروايات الانجيلية فكان رد العالم وليام لين كريج عليه: "فى الحقيقة عندما ننظر إلى نقاط الاختلاف المفترضة نجد أكثرها مثل عدد وأسماء النساء اللواتى زرن القبر، إنما هو مجرد تناقضات ظاهرية غير حقيقية، علاوة على ذلك فإن الاختلافات المزعومة نجدها فى التفاصيل الثانوية للقصة وظروفها وليس لها أى تأثير يذكر على الحقائق الأربعة التى سبق وذكرتها.[الحقائق الأربعة هى: دفن يسوع، اكتشاف القبر فارغ صباح الأحد، إدعاء الكثيرين رؤية المسيح بعد قيامته، تحول التلاميذ المفاجئ والمخلص إلى الموت بأن المسيح قد قام من بين الأموات]. لذلك فإن معظم المؤرخين لم ينثنوا عن اهتمامهم بسبب اعتراضات من هذا القبيل. كما أن د. إيرمان استنتج بنفسه أن عليه مراجعة موقفه بشأن هذه القضايا. وبغض النظر عن عدم التوافق الحاصل فى تفاصيل القصة فهو يعترف بأن لدينا "تقاليد ثابتة"، وذلك ليس فقط بالنسبة لدفن يسوع بل أيضاً بالنسبة لاكتشاف النساء للقبر الفارغ، لذلك هو يقول: "بإمكاننا الاستنتاج مع بعض التأكيد بأن يسوع قد دفن بالحق من قِبَل يوسف الرامى فى قبر  وأنه بعد ثلاثة أيام وُجد قبره فارغًا"[5]"[6]

إذاً المؤرخ لا يمكن أن يرفض رواية الأناجيل الأربعة لاختلافها فى التفاصيل بل على العكس هذا يدعم الموثوقية التاريخية لها، كيف؟  لقد وضح دانيال والاس هذا الأمر فى حواره مع الصحفى لى ستروبل، وها هو نص الحوار:
"فقال [والاس]: "منذ بعض السنوات قابلت بنت مسلمة كانت مهتمة بالمسيحية. جاءت إليّ ومعها ستة ورقات مكتوبة بخط اليد مما يُفترض أنه تناقضات بين الأناجيل. علمها المسلمون بأنها إذا وجدت خطأ واحد فى الأناجيل، فإنها لا تستطيع أن تؤمن بأى شىء آخر. قالت ليّ: "عليك أن تجيب على كل نقطة من هذه الصفحات قبل أن اؤمن بأى شىء عن المسيحية". فأجبتها قائلاً: "ألا تعتقدين بأن هذه القائمة تُثبت بأن المؤلفين لم يتآمروا معاً ولم يتواطئوا معاً حينما كتبوا أناجيلهم؟" فقالت: "أنا لم أفكر أبداً بهذه الطريقة". فقلت: "كل ما تحتاجين إليه هو أن تنظرى الى الأماكن التى لا تختلف فيها الأناجيل نهائياً. فماذا ستجدى؟ ستجدى رسالة جوهرية ثورية: أعترف التلاميذ بأن يسوع هو المسيح، وأنه قام بصنع المعجزات وشفى الناس، و غفر الخطايا، و تنبأ بموته وقيامته، و مات على صليب رومانى، و قام من الموت بجسده. والآن، ماذا ستفعلى مع يسوع؟ حتى لو كُتاب الإنجيل لديهم إختلافات فى سردهم - سواء كانت هذه الإختلافات تستحق أن نُسميها تناقضات فهذا سنؤجله لوقت لاحق- فإن هذا يُضيف إلى موثوقيتهم ببيان أنهم لم يتشاوروا معاً فى أحد الأماكن ليطبخوا هذه الطبخة. أليس إتفاقهم معاً على إعتقاد مركزى جوهرى يعنى أنهم توصلوا الى الأساسيات بشكل صحيح، وبدقة، لأنهم كانوا يوثقون نفس الأحداث؟".

فسألت [ستروبل]:"ما الذى حدث لها؟".

   [أجاب والاس]: "أصبحت مسيحية بعد اسبوعين، و هى الآن طالبة فى معهد دالاس. إن نقطتى الرئيسية هى أن العصمة عن الخطأ التاريخى مهمة، لكن الإنجيل أكبر من مُجرد عصمة."

[يعلق ستروبل]: "بدا تحليل والاس منطقى لىّ. فى الحقيقة، لقد تذكرت الطريقة التى كنت أنظر بها إلى الكتاب المقدس، حينما تركت المسيحية لأول مرة. فأخبرتُ والاس قائلاً: "حينما كنت ملحداً، نحيت موضوع العصمة جانباً، و عاملت العهد الجديد كأنه مجموعة وثائق قديمة مُجردة، و هو كذلك فعلاً. و بهذه الطريق إستطعت أن أُقيمهم كما أستطيع أن أُقيم أى وثائق قديمة أخرى، وبالتأكيد، يجب توقع وجود بعض الإختلافات فى كل هذه التسجيلات."[7]

إن التطبيق الإيجابى للمعيار (بالطريقة الجديدة التى وضعناها) أو معيار  عدم التشابه الوثائقى (والمصطلح من صكنا)، يؤيد موثوقية العهد الجديد، بل إن مشكلة إيرمان الرئيسية فى كتاباته أنه يطبق المعيار بالمعكوس، بحيث يعتبر الاختلافات دليل إدانة وبطلان، وهذا يناقض منهج النقد التاريخى، فيبدو أن إيرمان ينبذ المنهج الأكاديمى ليرفض الإيمان.



[1] Darrell L. Bock, "The Words of Jesus In the Gospels: Live, Jive, or Memory?", In: Michael J. Wilkins &  J. P. Moreland (eds.), Jesus Under Fire, Zondervan Publishing House, 1995, p. 91
   [2] لقراءة معالجة تفصيلية للتطبيق السلبى للمعيار راجع: جى أد كومزوسكى وآخرون، أيعيدون اختراع شخصية يسوع!، تر/ سامى رشدى مورجان، مركز مورغان للنشر والإعلام، ص ص 38-42
[3] For the difference between positive & negative applications of criterion of dissimilarity see:  Gerd Theissen & Dagmar Winter, the Quest for Plausible Jesus, Tr. By M. Eugene Boring, Westminster John Knox Press, 2002, p. 22
[4]   د. حسن عثمان، منهج البحث التاريخى، دار المعارف – القاهرة، ط 8، ص 151
[5] Bart Ehrman, “From Jesus to Constantine: A History of Early Christianity,” Lecture 4: “Oral and Written Traditions about Jesus” (The Teaching Company, 2003).
[6] لمشاهدة المناظرة بين إيرمان وكريج وقراءة تفريغ مُترجم لها، راجع هذا الرابط:
[7]    حوار مع دان والاس، تر/ فادى اليكساندر، تجدونه على هذا الرابط: