الأربعاء، 23 أبريل 2014

مقتل هيباتيا والتاريخ - مقال بجريدة القاهرة



تعليقًا على مقال طلعت رضوان
د. صموئيل طلعت أيوب

طالعنا الأستاذ طلعت رضوان بمقال يتحدث فيه عن الفيلسوفة المصرية هيباتيا وفاجعة اغتيالها على أيدى بعض المسيحيين. واتفق معه أن الجهل والتعصب هما سبب اغتيال الفلسفة والعلم، لكننى اختلف معه فى بعض التفاصيل بناءًا على قراءاتى التاريخية.

فى أى بحث تاريخى عن حدثٍ ما، على الباحث أن يعود إلى المصادر الأولية والثانوية التى ذكرت هذا الحدث ويدرسها قبل أن تخط يداه حرفًا، لكن للأسف فإن الأستاذ طلعت رضوان لم يعتمد على المصادر الأولية انما على مراجع معاصرة، فذكر ول ديورانت ومارتن برنال والفيلسوف برتراند راسل وغيرهم. لكننى سأحاول فى هذا المقال أن أوضح ما الذى ذكرته المصادر القديمة عن هذه الفيلسوفة.

لم يصلنا سوى شذرات عن فاجعة مقتل الفيلسوفة هيباتيا، ولم تشر المصادر الأولية بأصبع الاتهام للبابا السكندرى كيرلس، فأولى تلك المصادر وأوثقها هو سقراط المؤرخ فى كتابه "تاريخ الكنيسة"، حيث يقول: "إنها [هيباتيا] سقطت ضحية للغيرة السياسية التي سادت في ذلك الوقت لأنها كانت تقابل أُورستس كثيراً وشاع بين عامة المسيحيين أنها هي التي تمنع أُورستس عن مصالحة البطريرك وبسبب هذه الغيرة أسرع بعضهم وعلى رأسهم قارئ يسمى بطرس وهي في طريقها لمنزلها وجروها من مركبتها وأخذوها لكنيسة تسمى قيصرون حيث جردوها تمامًا من ملابسها ثم قتلوها ومزقوا جثتها إلى قطع، ثم أخذوا أطرافها المهترئة إلى مكان يدعى سينارون وأحرقوها. وقد جلبت تلك القضية الخزى لا على كيرلس وحده بل على كنيسة الأسكندرية كلها. وبالتأكيد لا شئ أبعد عن روح المسيحية أكثر من المذابح والمقاتلات والأعمال من ذلك القبيل. وقد حدث ذلك فى شهر مارس فى السنة الرابعة لأسقفية كيرلس [أى عام 415م]." (ك7، ف15) وفى الفصلين السابقين لإيراده القصة، نجده تحدث عن خطين من الأحداث: الأول هو زيادة عنف الرعاع، والثانى هو زيادة الشقاق بين كيرلس وأُورستس. ويكتب سقراط فى مقدمته لذينك الفصلين: "إن عامة الشعب السكندرى يسعد بالشغب عن أى شعب آخر؛ ففى أى وقت تسنح له الفرصة يندفع بطريقة مفرطة ومبالغ فيها، ولا يتوقف إلا بإراقة الدماء." (ك7، ف13).

من ثم، فإن أقدم المصادر التاريخية التى تذكر فاجعة اغتيالها تؤكد أنها سقطت كضحية سياسية لا دينية، وأن الذين قتلوها هم عامة المسيحيين، حيث لا دخل للبابا كيرلس بالأمر، بل إن الأمر جلب عليه وعلى كنيسته العار. وسقراط مؤرخ عُرف عنه الحياد فى الطرح، بالإضافة لكونه معارضًا لكيرلس فليس هناك ما يبرر تكذيبه.

المؤرخ الثانى هو يوحنا النقيوسى، وعلينا أن نشير أن يوحنا رجل دين يتبنى الرؤى الدينية المحافظة (وهذا يتجلى فى نظرته للوثنية على أنها نتاج الشيطان وأيضًا فى حديثه عن العالم القديم) كتب النقيوسى: "وفى هذه الأيام ظهرت امرأة وثنية فيلسوفة بمدينة اسكندرية اسمها أنباديا تخصصت لعمل السحر وللأسطرلابات وأدوات اللهو فى كل وقت، وغررت بكثير من الناس بتموية الشيطان، وكان حاكم المدينة [أُورستس] يكبرّها كثيرًا لأنها خدعته بسحرها." (عمرو صابر عبدالجليل، تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي: رؤية قبطية للفتح الاسلامي، عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، 2003م، ص 127-128) ثم بعد ذلك يشرح الخلافات بين البابا كيرلس والحاكم أُورستس، والنزاعات بين المسيحيين واليهود، ودور هيباتيا فى التأثير على الحاكم، ثم يقص قصة مقتلها: "ثم قامت جماعة المؤمنين بالرب مع الوالي بطرس، وكان بطرس هذا مؤمنًا تمامًا لكل ما ليسوع المسيح، وذهبوا للبحث عن هذه المرأة الوثنية التي كانت تضلل أهل المدينة والحاكم بأسحارها. وحين عرفوا المكان الذى كانت به ساروا إليها فوجدوها تجلس على كرسى، فأنزلوها من الكرسى وسحبوها حتى أوصلوها إلى الكنيسة العظيمة التي تسمى قيسارية، وكان هذا فى أيام الصوم، ونزعوا ملابسها، وسحبوها حتى أحضروها الي شوارع المدينة حتى ماتت، وألقوا بها فى مكان يدعى نيكينارون وأحرقوا جسدها بالنار." (المرجع السابق، ص 129-130) نلاحظ اعتماد النقيوسى بشكل أساسى على رواية سقراط المؤرخ، لكن الاختلاف بين الاثنين؛ أن سقراط اعتبر الجريمة عمل شنيع أبعد ما يكون عن الروح المسيحية بينما النقيوسى اعتبره عمل تقي!، ومع ذلك فالاثنان اتفقا على عدم مشاركة البابا كيرلس فى هذا العمل. 

صمت أُورستس الحاكم (الذى فى خلاف مع كيرلس) وسقراط المؤرخ (المعارض لكيرلس) عن اتهامه بالمشاركة فى هذه الجريمة الشنعاء. ولا يمكن أن نغفل أنه بعد ثلاثة عشر عامًا اندلع النزاع الكريستولوجى بين كيرلس ونسطور، حينها تقدم مجموعة من السكندريين الذين حرمهم البابا كيرلس بقائمة من الاتهامات الأخلاقية ضده شملت عدم الأمانة، عدم مساعدة الفقراء، السرقة، سوء معاملة والدته. فلو كانت هناك أى شائبة تربط البابا كيرلس بمقتل هيباتيا لاستخدمها هؤلاء ضده، أو حتى استخدمها نسطور. لكننا فى المقابل نجد صمت الجميع حيال الأمر، مما يدلل أنه ليس ثمة علاقة بين البابا كيرلس ومقتل الفيلسوفة هيباتيا.

وقد يتساءل القارئ: كيف نشأت فكرة مسئولية البابا كيرلس عن هذه الجريمة؟ أول من أنحى باللائمة على البابا كيرلس هو داماسكيوس Damascius فيلسوف الأفلاطونية المحدثة وآخر رئيس للأكاديمية قبل إغلاقها فى عهد جوستنيان عام 527م، فى كتابه "حياة إيسيدور". لكن لا يمكننا أن نستند على شهادة وحيدة لفيسلوف وثنى عاش 130 عامًا بعد الحدث، وقد كتب هذا فى عهد يوليانوس الامبراطور الذى أراد إحياء الديانة الوثنية، فكتب ذلك لأجل تشويه الكنيسة ويظهر ذلك جليًا فى أسلوبه العدائى للمسيحية والبابا كيرلس. 

وعن داماسكيوس نقلت الموسوعة البيزنطية Suda فى القرن العاشر الميلادى قصة مقتلها، وعنها أخذ تولاند وجيبون. وعلينا أن نلاحظ طريقة استخدام الاثنين للمأساة، فجيبون استخدمها فى نقده للمسيحية وتولاند فى نقده للكنيسة الكاثوليكية.  

لذلك لا يمكن حسبان هيباتيا كشهيدة لأسباب دينية، بل بالحرى يجب أن يُحسب موتها نتيجة مأساوية لعنف الرعاع نتيجةً للصراع السياسى بالأسكندرية.

لا يجب أن تقودنا العاطفة لتغيير التاريخ، ولا يجب أن تحولنا المأساة لجناة.  

وفى المقال المقبل، سنناقش حقيقة اسهامات هيباتيا فى الفلسفة والعلوم طبقًا للمصادر التاريخية القديمة. 

ملحوظة: الصور هى إضافة من الجورنال حيث لم أرسل أى صور للجريدة، لذلك نشروا صورة البابا كيرلس السادس بدلاً من البابا كيرلس الأول، فعذراً عن هذا الخطأ غير المقصود من الجريدة ...  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق