هناك مغالطة منطقية تُدعى بمغالطة الاستدلال الدائرى Circular
reasoning وسأضرب لكم مثالاً لتلك المغالطة، يتساءل
الملحد: "لماذا تحدث المعجزات؟" فيجيب المؤمن: "لأن الله
موجود." فيسأل الملحد: "وما الدليل على وجود الله؟" فيجيب المؤمن:
"حدوث المعجزات."
وجدتُ أحد أصدقائى الملحدين يرفض حدوث المعجزات لأن الله غير موجود بالنسبة
له، ولأنه يؤمن بالعلم فقط، والمعجزة تكسر قوانين العلم فمن ثم المعجزات لا تحدث.
المعجزات ليس لها تفسير علمى لأن لو كان لها تفسير علمى لمّ صارت معجزات !!
المعجزة من وجهة نظرى حدث تاريخى يمكن أن نتحقق منه بآليات النقد التاريخى لكن لا
يمكن نفى حدوث المعجزة لأن ليس لها تفسير علمى، هذا خطأ منطقى، فالمعجزة تدخل باب
الإيمان، وهنا دعونى أناقش سؤال خطير: هل هناك إيمان فى العلم؟
يرفع الملحد يده بعقوق نافيًا عن العلم الإيمان، لكن فى الحقيقة إدعاء خلو العلم
من الإيمان هو محض زيف واضح free of faith is
manifestly bogus على حد تعبير الفيزيائى الانجليزى
بول ديفيز[1]. ودعونى أضرب لكم مثالاً
يدلل على كلامنا.
نقد كارل بوبر مبدأ الاستقراء موضحًا أن الدفاع عنه يسقطنا فى مغالطة الاستدلال
الدائرى، فنجد راسل يرد بضرورة قبول هذا المبدأ "قبليًا" أو على حد
تعبيره: "على أساس وضوحه الذاتى"[2] أو بصيغة أخرى أننا يجب أن نقبل (نؤمن بـ) هذا المبدأ لوضوحه لا لوجود تفسير علمى له!! وكذلك يتحدث المؤمن عن قبول
المعجزات.
رفض ديفيد هيوم المعجزات بانيًا نقده على المنهج الاستقرائى حيث يقول:
""المعجزة هي خرق لقوانين الطبيعة؛ ولما كانت الخبرة الثابتة وغير
القابلة بالخلل قد أقامت هذه القوانين، فإن الدليل الذى يعارض معجزة ما، بناء على
طبيعة الواقعة عينها، لهو بكمال أى دليل متخيل يستمد من الخبرة."[3] من الملاحظة يستنتج هيوم
قانونًا يعممه ويؤسس عليه التنبؤ بما سيحدث فى المستقبل، ولن أناقش هنا المنهج
الاستقرائى ونقد كارل بوبر وبيير دوهيم لهذا المنهج، أو رفض هيوم شهادة شهود العيان
والتشكك فى الثقة الأساسية لإدراك الحسى فهذا سأفرد له مقالاً مفصلاً لكن ما أحب
التنويه له فى هذا المقال أن منهجه وحججه نُقدت فى الفلسفة المعاصرة، فكلٌ من الفيلسوف
الأمريكى جون إيرمان John Earman (وهو لاأدرى
المذهب agnostic) "Hume’s
Abject Failure: The Argument Against Miracles فشل هيوم
المدقع؛ الحجة ضد المعجزات" المنشور من قبل جامعة أكسفورد. والفيلسوف
البريطانى ريتشارد سوينبرج Richard Swinburne
(عضو بالكنيسة اليونانية الأرثوذكسية) فى ورقته " Miracles المعجزات" المنشورة فى The
Philosophical Quarterly, Vol. 18, No. 73 (Oct., 1968). وقد أكدا
الاثنان إنه لا توجد عاقبة منطقية أو فلسفية فى حدوث المعجزات، يقول ريتشارد سوينبرج:
"إن استنتاجى الرئيسى، الذى عليّ تكراره، أنه لا توجد صعوبات منطقية فى فرض
وجود دليل تاريخى قوى لحدوث المعجزات."[4]
من ثم فالأمر مطروح على الطاولة التاريخية. وعلى المؤرخ أن
يطبق آليات النقد التاريخى على الأدلة المتوفرة للوصول إلى نظرية.
البعض يعترض على حدوث المعجزات بحجة أن أى شىء إحتمالية حدوثه
أكبر جدًا من إحتمالية حدوث المعجزة، فعلى سبيل المثال؛ قيامة المسيح. قال بارت
إيرمان فى مناظرته مع وليام لين كريج أنه ربما قاما اثنان من أفراد عائلة يسوع
بسرقة جسده من القبر، وهما فى الطريق قُتلا ودفنا مع الجسد المسروق فى قبر شعبى.
ربما لم يحدث هذا ولكنه أكثر إحتمالاً من التفسير القائل بقيامة السيد المسيح من
الموت. خلاصة القول أن إحتمالية حدوث أى تفسير طبيعى للحدث يمكن تخيله أكبر من
إحتمالية حدوث المعجزة.
لكن الذى يرد على هذا المنهج هو أن قوة الإحتمالية تُقاس
بمدى قابلية التفسير المطروح للتطبيق على كافة الأدلة المتوفرة. إن أفضل تفسير للدليل
هو التفسير الذى يفسر "كل" قطعة من الدليل، ولا يترك قطعة منه. أفضل تفسير
هو الذى لا يعتمد فرضيات لا يشهد بها الدليل المتوفر.[5]
ودعونى أوضح الأمر على مثال إيرمان، فمثلاً كيف يتم سرقة جسد المسيح دون أن
يحس الحراس؟؟ وإن شعر الحراس بهم فلماذا لم يمنعوهم، وهم اثنين فقط أمام جماعة من
الحراس؟؟ وإن كانوا قد استطاعوا الهرب من مجموعة الحراس ألم يستطيعوا أن يهربوا من
مجموعة من قطاع الطرق؟؟ وكيف لا يوجد شاهد تاريخى أو أثرى على هذا الحدث؟؟
إن إيرمان ضرب هذا التفسير من باب المجادلة، قائلاً أنه على الرغم من عدم
معقولية هذا التفسير إلا أن إحتمالية حدوثه أكبر من احتمالية حدوث معجزة القيامة.
لكن سيظل القبر الفارغ، شهادة التلاميذ، وتغير موقفهم (من الهرب إلى المواجهة ودفع
حياتهم ثمنًا لإدعاءهم قيامة يسوع). سيظل كل هذا بلا تفسير طبيعى.
بلغة العلم، مثال إيرمان لا يعدو كونه فرضية بينما قيامة المسيح نظرية[6]، قيامة المسيح هى التفسير
الوحيد لـ "كل" الأحداث والأدلة المتوفرة لدينا.
هذه هى رؤيتى للمعجزات وإن كان الأمر يحتاج لدراسة أشمل.
وأختتم مقالى بقول اينشتاين: "علم بدون دين معوق، ودين بدون علم أعمى"[7] أو دعونا نقولها بشكل أفضل:
علم بدون دين سيكون فاقدًا للروح، ودين بدون علم سيكون فاقدًا للعقل.
صموئيل طلعت
1/3/2014
[1] Paul Davies, "Taking Science on
Faith", In: New York Times, (24-11-2007). http://www.nytimes.com/2007/11/24/opinion/24davies.html?pagewanted=2 [retrieved 28 February
2014]
[2] دونالد جيليز، فلسفة العلم فى القرن العشرين، ترجمة ودراسة: د. حسين
على، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة، 2010م، ص 159
[4] Richard Swinburne, "Miracles", In: The Philosophical Quarterly,
Vol. 18, No. 73 (Oct., 1968), p. 328
[6] الفرق بين النظرية theory والفرضية hypothesis هو أن النظرية هى نتيجة تجريب
الفرضية بشكل علمى، لذلك الفرضية قد تكون صواب أو خطأ لكن النظرية من المفترض أن
تكون صحيحة لأنها مبنية على طريقة علمية، فمثلاً عندما يلاحظ إنسان ظاهرة يفترض
"فرضية" لسبب حدوثها ثم يبدأ فى عمل تجارب علمية، فإذا أثبتت التجارب
صحة فرضيته، تصبح فرضيته "نظرية"، ولكن مع ذلك فالنظرية ليست مبرهنة
ولكنها "الفرضية الأكثر قوة وإحتمالية لتفسير الظاهرة". دعونا نصيغها
بشكل آخر، النظرية هى التى تستطيع تفسير كل الأدلة المتوفرة دون الوقوع فى تناقض.
[7] "science
without religion is lame, religion without science is blind." http://www.sacred-texts.com/aor/einstein/einsci.htm
[retrieved 1 March 2014]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق