الجمعة، 3 أكتوبر 2014

ديدات والنقد النصي - كلاكيت ثالث مرة

نشرتُ مقالاً عن "ديدات والنقد النصي" في سبتمبر عام 2012م، وفي سبتمبر مِن ذات العام نشر أيمن تركي ما وصفه بردٍ على المقال. وبعد قراءتي لرده كتبتُ تعليقًا عليه عنونته بـ "ديدات والنقد النصي – تعليقًا على تعليق" في ديسمبر مِن ذات العام. وفي يناير عام 2013م نشر أيمن تركي ما وصفه تعليقًا على تعليقي. وبعد قراءتي لهذا التعليق كتبتُ تعليقًا على ما كتبه لكنني أجلتُ نشره إلى حين أن أنشر دراسة كنت أعدها حينها عن الدافع اللاهوتي في كتابات إيرمان، ولكنني توقفتُ عن استكمال تلك الدراسة، ونسيتُ ردي، ومنذ عدة أيام حدثني أحد الأصدقاء عما كان بيني وبين أيمن تركي مِن مناقشة بخصوص ديدات وحينما عدتُ للملف الخاص بالموضوع وجدتُ تلك الدراسة مؤرخة بمارس 2013م، ولكنني للآسف نسيتُ أن أنشرها للأسباب التي ذكرتها. وبالطبع ستجدون الأسلوب أقل مما أكتب به حاليًا، فالإنسان في حالة نمو دائم، لكنني قررت أن أنشرها لِمَ في الدراسة مِن معلومات مفيدة.  
لتحميل الدراسة (اضغط هنا(

الجمعة، 12 سبتمبر 2014

شكل الصليب

ينادي شهود يهوه بأن المسيح صُلب على عمود لا على صليب، وفي عام 2010م قدم صامويلسون رسالة الدكتوراة في جامعة جوتنبرج، وخلاصتها أن كلمة "صليب" لها العديد مِن الاستخدامات ليس مِن بينها الشكل التقليدي المعروف، فهي تُعني في الأساس التعليق لا الصلب. فما هو شكل صليب المسيح حقًا؟

في هذه الورقة الصغيرة سأحاول الإجابة عن هذا السؤال، بالأدلة التاريخبة والأثرية.


 لتحميل الورقة في صورة pdf  (اضغط هنا

السبت، 10 مايو 2014

معيار عدم التشابه وتاريخية يسوع

أول من قدم معيار عدم التشابه Criteria of Dissimilarity هو اللاهوتى اللوثرى إرنست كازمان Ernst Käsemann (1906-1998) لتحديد الأقوال الأصلية ليسوع (التطبيق السلبى للمعيار كما سنوضح فيما بعد). ومعيار عدم التشابه له شكلين: معيار التمييز عن اليهودية ‘criteria of distinction from Judaism’(CDJ )  ومعيار التمييز عن المسيحية ‘Criteria of distinction from Christianity‘(CDC) ويمكن استخدام الشكلين معاً ويُسمى حينها معيار عدم التشابه المزدوج  criteria of double dissimilarity (CDD)، وقد كان رودلف بولتمان من أوائل مستخدمى معيار عدم التشابه المزدوج (CDD).

ولهذا المعيار تطبيقان. أولهما التطبيق السلبى للمعيار، وقد تمثل ذلك فى تحديد المواد الأصلية ليسوع authentic materials،ف أقوال يسوع الأصلية هى تلك الأقوال التى لا تشابه الأخلاق والتقوى اليهودية المعاصرة له من جهة (CDJ) ولا التعاليم المسيحية التى تبنتها الكنيسة الأولى من جهة أخرى (CDC). والسبب وراء هذا الاستخدام السلبى للمعيار هو أنه لو كان القول المنسوب ليسوع لا يشابه التعاليم اليهودية السابقة له، سيكون حينها من الأرجح أنه قوله الذى لم يسبقه إليه أحد. وإن كانت الكنيسة الأولى لم تتبن هذا القول، فعندئذ سيكون من المؤكد أنها لم تخترعه ووتضعه على لسان يسوع. وبالتالى فالقول الحقيقى الصحيح النسب ليسوع هو القول الذى يخالف اليهودية والمسيحية !!

المشكلة الرئيسية التى تنتج عن هذا التطبيق السلبى للمعيار، هو أن يسوع حينها سيكون شخصًا غريبًا، لم يتأثر بسابقيه ولم يؤثر فى تابعيه !! يقول داريل بوك: "لو بُرهن على كلا جانبى عدم التشابه [يقصد الاختلاف مع اليهودية والمسيحية]، بحيث يختلف يسوع عن اليهودية والكنيسة الأولى، عندئذ سيصبح يسوع شخص غريب بالتأكيد، منفصلاً تماماً عن تراثه الثقافى ومنعزلاً  فكريا (ايديولوجيًا) عن الحركة التى كان مسئولاً عن تأسيسها. بل إن المرء يتعجب كيف أُخذت شخصيته على محمل الجد. هو سيصبح غريب الأطوار لو اُعتبر فقط ما هو مختلف هو الأصيل. هذا المعيار يساعدنا على معرفة تعاليم يسوع الاستثنائية لكنه لا يمكن أن يعطينا يسوع الأساسى the essential Jesus"[1] 
يرفض معظم العلماء والدارسين التطبيق السلبى للمعيار، ويرون أن يسوع التاريخى لا يُمكن أن يُفهم خارج الإطار اليهودى والمسيحى المبكر.[2]    

التطبيق السلبى وُضع ليحدد كلمات يسوع الأصلية، ويُحصر الحكم فى اختيارين: كلمات أصلية authentic وكلمات غير أصلية unauthentic، بينما التطبيق الإيجابى لهذا المعيار وسع دائرة الاختيارات إلى: قول أصلى authentic، محتمل أن يكون القول أصليًا  possibly authentic، قول غير أصلى non-authentic، والاحتمال الآخير  هو أضعف الاحتمالات لأننا لا نعرف بالضبط طبيعة اليهودية القديمة والمسيحية المبكرة.[3]   

وفى هذا المقال سأنظرّ لإتساع مجال التطبيق الإيجابى لهذا المعيار، بحيث يتجاوز البحث عن كلمات يسوع الأصلية للبحث عن الأحداث المرتبطة بيسوع. فهناك مبدأ تاريخى بأن عدم التشابه فى التفاصيل بين الشهود عن حدث ما، هو دليل على تعددية الشهادات، ومن ثمَّ على وجود حدث تاريخى، وهذا ما سوف أسميه "معيار عدم التشابه الوثائقى".

هذا المعيار يدعم الموثوقية التاريخية للأناجيل الأربعة، يقول الدكتور حسن عثمان:  "الاتفاق الصحيح بين مصدرين مستقلين لا يكون -فى الغالب- بتشابههما المطلق، ولكن بإتفاقهما وتشابههما فى مواضع وبتفاوتهما واختلافهما فى مواضع أخرى."[4] أى أنه من الطبيعى وجود اختلافات فى التفاصيل بين المصادر التاريخية فى روايتها عن حدث ما. ومن ثمَّ تصير الاختلافات فى التفاصيل بين الأناجيل الأربعة دليل على صحتها لا دليل على إدانتها.

وفى هذا المقال سنتعامل مع الأناجيل الأربعة بإعتبارها وثائق تاريخية روت لنا عن حدث معين، وعند تطبيق معيارنا على روايات الأناجيل الأربعة سنجد عدم تشابه فى التفاصيل مما يدلل على صحة حدوث هذا الحدث المعين.

فمثلاً عند مقارنة قصة القيامة بين الأناجيل الأربعة نجد اختلافات فى التفاصيل، لكنها لا تؤثر على جوهر الرواية أو تشكك فى حدوث القيامة. شكك إيرمان فى قيامة المسيح بناءً على الاختلافات بين الروايات الانجيلية فكان رد العالم وليام لين كريج عليه: "فى الحقيقة عندما ننظر إلى نقاط الاختلاف المفترضة نجد أكثرها مثل عدد وأسماء النساء اللواتى زرن القبر، إنما هو مجرد تناقضات ظاهرية غير حقيقية، علاوة على ذلك فإن الاختلافات المزعومة نجدها فى التفاصيل الثانوية للقصة وظروفها وليس لها أى تأثير يذكر على الحقائق الأربعة التى سبق وذكرتها.[الحقائق الأربعة هى: دفن يسوع، اكتشاف القبر فارغ صباح الأحد، إدعاء الكثيرين رؤية المسيح بعد قيامته، تحول التلاميذ المفاجئ والمخلص إلى الموت بأن المسيح قد قام من بين الأموات]. لذلك فإن معظم المؤرخين لم ينثنوا عن اهتمامهم بسبب اعتراضات من هذا القبيل. كما أن د. إيرمان استنتج بنفسه أن عليه مراجعة موقفه بشأن هذه القضايا. وبغض النظر عن عدم التوافق الحاصل فى تفاصيل القصة فهو يعترف بأن لدينا "تقاليد ثابتة"، وذلك ليس فقط بالنسبة لدفن يسوع بل أيضاً بالنسبة لاكتشاف النساء للقبر الفارغ، لذلك هو يقول: "بإمكاننا الاستنتاج مع بعض التأكيد بأن يسوع قد دفن بالحق من قِبَل يوسف الرامى فى قبر  وأنه بعد ثلاثة أيام وُجد قبره فارغًا"[5]"[6]

إذاً المؤرخ لا يمكن أن يرفض رواية الأناجيل الأربعة لاختلافها فى التفاصيل بل على العكس هذا يدعم الموثوقية التاريخية لها، كيف؟  لقد وضح دانيال والاس هذا الأمر فى حواره مع الصحفى لى ستروبل، وها هو نص الحوار:
"فقال [والاس]: "منذ بعض السنوات قابلت بنت مسلمة كانت مهتمة بالمسيحية. جاءت إليّ ومعها ستة ورقات مكتوبة بخط اليد مما يُفترض أنه تناقضات بين الأناجيل. علمها المسلمون بأنها إذا وجدت خطأ واحد فى الأناجيل، فإنها لا تستطيع أن تؤمن بأى شىء آخر. قالت ليّ: "عليك أن تجيب على كل نقطة من هذه الصفحات قبل أن اؤمن بأى شىء عن المسيحية". فأجبتها قائلاً: "ألا تعتقدين بأن هذه القائمة تُثبت بأن المؤلفين لم يتآمروا معاً ولم يتواطئوا معاً حينما كتبوا أناجيلهم؟" فقالت: "أنا لم أفكر أبداً بهذه الطريقة". فقلت: "كل ما تحتاجين إليه هو أن تنظرى الى الأماكن التى لا تختلف فيها الأناجيل نهائياً. فماذا ستجدى؟ ستجدى رسالة جوهرية ثورية: أعترف التلاميذ بأن يسوع هو المسيح، وأنه قام بصنع المعجزات وشفى الناس، و غفر الخطايا، و تنبأ بموته وقيامته، و مات على صليب رومانى، و قام من الموت بجسده. والآن، ماذا ستفعلى مع يسوع؟ حتى لو كُتاب الإنجيل لديهم إختلافات فى سردهم - سواء كانت هذه الإختلافات تستحق أن نُسميها تناقضات فهذا سنؤجله لوقت لاحق- فإن هذا يُضيف إلى موثوقيتهم ببيان أنهم لم يتشاوروا معاً فى أحد الأماكن ليطبخوا هذه الطبخة. أليس إتفاقهم معاً على إعتقاد مركزى جوهرى يعنى أنهم توصلوا الى الأساسيات بشكل صحيح، وبدقة، لأنهم كانوا يوثقون نفس الأحداث؟".

فسألت [ستروبل]:"ما الذى حدث لها؟".

   [أجاب والاس]: "أصبحت مسيحية بعد اسبوعين، و هى الآن طالبة فى معهد دالاس. إن نقطتى الرئيسية هى أن العصمة عن الخطأ التاريخى مهمة، لكن الإنجيل أكبر من مُجرد عصمة."

[يعلق ستروبل]: "بدا تحليل والاس منطقى لىّ. فى الحقيقة، لقد تذكرت الطريقة التى كنت أنظر بها إلى الكتاب المقدس، حينما تركت المسيحية لأول مرة. فأخبرتُ والاس قائلاً: "حينما كنت ملحداً، نحيت موضوع العصمة جانباً، و عاملت العهد الجديد كأنه مجموعة وثائق قديمة مُجردة، و هو كذلك فعلاً. و بهذه الطريق إستطعت أن أُقيمهم كما أستطيع أن أُقيم أى وثائق قديمة أخرى، وبالتأكيد، يجب توقع وجود بعض الإختلافات فى كل هذه التسجيلات."[7]

إن التطبيق الإيجابى للمعيار (بالطريقة الجديدة التى وضعناها) أو معيار  عدم التشابه الوثائقى (والمصطلح من صكنا)، يؤيد موثوقية العهد الجديد، بل إن مشكلة إيرمان الرئيسية فى كتاباته أنه يطبق المعيار بالمعكوس، بحيث يعتبر الاختلافات دليل إدانة وبطلان، وهذا يناقض منهج النقد التاريخى، فيبدو أن إيرمان ينبذ المنهج الأكاديمى ليرفض الإيمان.



[1] Darrell L. Bock, "The Words of Jesus In the Gospels: Live, Jive, or Memory?", In: Michael J. Wilkins &  J. P. Moreland (eds.), Jesus Under Fire, Zondervan Publishing House, 1995, p. 91
   [2] لقراءة معالجة تفصيلية للتطبيق السلبى للمعيار راجع: جى أد كومزوسكى وآخرون، أيعيدون اختراع شخصية يسوع!، تر/ سامى رشدى مورجان، مركز مورغان للنشر والإعلام، ص ص 38-42
[3] For the difference between positive & negative applications of criterion of dissimilarity see:  Gerd Theissen & Dagmar Winter, the Quest for Plausible Jesus, Tr. By M. Eugene Boring, Westminster John Knox Press, 2002, p. 22
[4]   د. حسن عثمان، منهج البحث التاريخى، دار المعارف – القاهرة، ط 8، ص 151
[5] Bart Ehrman, “From Jesus to Constantine: A History of Early Christianity,” Lecture 4: “Oral and Written Traditions about Jesus” (The Teaching Company, 2003).
[6] لمشاهدة المناظرة بين إيرمان وكريج وقراءة تفريغ مُترجم لها، راجع هذا الرابط:
[7]    حوار مع دان والاس، تر/ فادى اليكساندر، تجدونه على هذا الرابط:

الأربعاء، 23 أبريل 2014

مقتل هيباتيا والتاريخ - مقال بجريدة القاهرة



تعليقًا على مقال طلعت رضوان
د. صموئيل طلعت أيوب

طالعنا الأستاذ طلعت رضوان بمقال يتحدث فيه عن الفيلسوفة المصرية هيباتيا وفاجعة اغتيالها على أيدى بعض المسيحيين. واتفق معه أن الجهل والتعصب هما سبب اغتيال الفلسفة والعلم، لكننى اختلف معه فى بعض التفاصيل بناءًا على قراءاتى التاريخية.

فى أى بحث تاريخى عن حدثٍ ما، على الباحث أن يعود إلى المصادر الأولية والثانوية التى ذكرت هذا الحدث ويدرسها قبل أن تخط يداه حرفًا، لكن للأسف فإن الأستاذ طلعت رضوان لم يعتمد على المصادر الأولية انما على مراجع معاصرة، فذكر ول ديورانت ومارتن برنال والفيلسوف برتراند راسل وغيرهم. لكننى سأحاول فى هذا المقال أن أوضح ما الذى ذكرته المصادر القديمة عن هذه الفيلسوفة.

لم يصلنا سوى شذرات عن فاجعة مقتل الفيلسوفة هيباتيا، ولم تشر المصادر الأولية بأصبع الاتهام للبابا السكندرى كيرلس، فأولى تلك المصادر وأوثقها هو سقراط المؤرخ فى كتابه "تاريخ الكنيسة"، حيث يقول: "إنها [هيباتيا] سقطت ضحية للغيرة السياسية التي سادت في ذلك الوقت لأنها كانت تقابل أُورستس كثيراً وشاع بين عامة المسيحيين أنها هي التي تمنع أُورستس عن مصالحة البطريرك وبسبب هذه الغيرة أسرع بعضهم وعلى رأسهم قارئ يسمى بطرس وهي في طريقها لمنزلها وجروها من مركبتها وأخذوها لكنيسة تسمى قيصرون حيث جردوها تمامًا من ملابسها ثم قتلوها ومزقوا جثتها إلى قطع، ثم أخذوا أطرافها المهترئة إلى مكان يدعى سينارون وأحرقوها. وقد جلبت تلك القضية الخزى لا على كيرلس وحده بل على كنيسة الأسكندرية كلها. وبالتأكيد لا شئ أبعد عن روح المسيحية أكثر من المذابح والمقاتلات والأعمال من ذلك القبيل. وقد حدث ذلك فى شهر مارس فى السنة الرابعة لأسقفية كيرلس [أى عام 415م]." (ك7، ف15) وفى الفصلين السابقين لإيراده القصة، نجده تحدث عن خطين من الأحداث: الأول هو زيادة عنف الرعاع، والثانى هو زيادة الشقاق بين كيرلس وأُورستس. ويكتب سقراط فى مقدمته لذينك الفصلين: "إن عامة الشعب السكندرى يسعد بالشغب عن أى شعب آخر؛ ففى أى وقت تسنح له الفرصة يندفع بطريقة مفرطة ومبالغ فيها، ولا يتوقف إلا بإراقة الدماء." (ك7، ف13).

من ثم، فإن أقدم المصادر التاريخية التى تذكر فاجعة اغتيالها تؤكد أنها سقطت كضحية سياسية لا دينية، وأن الذين قتلوها هم عامة المسيحيين، حيث لا دخل للبابا كيرلس بالأمر، بل إن الأمر جلب عليه وعلى كنيسته العار. وسقراط مؤرخ عُرف عنه الحياد فى الطرح، بالإضافة لكونه معارضًا لكيرلس فليس هناك ما يبرر تكذيبه.

المؤرخ الثانى هو يوحنا النقيوسى، وعلينا أن نشير أن يوحنا رجل دين يتبنى الرؤى الدينية المحافظة (وهذا يتجلى فى نظرته للوثنية على أنها نتاج الشيطان وأيضًا فى حديثه عن العالم القديم) كتب النقيوسى: "وفى هذه الأيام ظهرت امرأة وثنية فيلسوفة بمدينة اسكندرية اسمها أنباديا تخصصت لعمل السحر وللأسطرلابات وأدوات اللهو فى كل وقت، وغررت بكثير من الناس بتموية الشيطان، وكان حاكم المدينة [أُورستس] يكبرّها كثيرًا لأنها خدعته بسحرها." (عمرو صابر عبدالجليل، تاريخ مصر ليوحنا النقيوسي: رؤية قبطية للفتح الاسلامي، عين للدراسات والبحوث الانسانية والاجتماعية، 2003م، ص 127-128) ثم بعد ذلك يشرح الخلافات بين البابا كيرلس والحاكم أُورستس، والنزاعات بين المسيحيين واليهود، ودور هيباتيا فى التأثير على الحاكم، ثم يقص قصة مقتلها: "ثم قامت جماعة المؤمنين بالرب مع الوالي بطرس، وكان بطرس هذا مؤمنًا تمامًا لكل ما ليسوع المسيح، وذهبوا للبحث عن هذه المرأة الوثنية التي كانت تضلل أهل المدينة والحاكم بأسحارها. وحين عرفوا المكان الذى كانت به ساروا إليها فوجدوها تجلس على كرسى، فأنزلوها من الكرسى وسحبوها حتى أوصلوها إلى الكنيسة العظيمة التي تسمى قيسارية، وكان هذا فى أيام الصوم، ونزعوا ملابسها، وسحبوها حتى أحضروها الي شوارع المدينة حتى ماتت، وألقوا بها فى مكان يدعى نيكينارون وأحرقوا جسدها بالنار." (المرجع السابق، ص 129-130) نلاحظ اعتماد النقيوسى بشكل أساسى على رواية سقراط المؤرخ، لكن الاختلاف بين الاثنين؛ أن سقراط اعتبر الجريمة عمل شنيع أبعد ما يكون عن الروح المسيحية بينما النقيوسى اعتبره عمل تقي!، ومع ذلك فالاثنان اتفقا على عدم مشاركة البابا كيرلس فى هذا العمل. 

صمت أُورستس الحاكم (الذى فى خلاف مع كيرلس) وسقراط المؤرخ (المعارض لكيرلس) عن اتهامه بالمشاركة فى هذه الجريمة الشنعاء. ولا يمكن أن نغفل أنه بعد ثلاثة عشر عامًا اندلع النزاع الكريستولوجى بين كيرلس ونسطور، حينها تقدم مجموعة من السكندريين الذين حرمهم البابا كيرلس بقائمة من الاتهامات الأخلاقية ضده شملت عدم الأمانة، عدم مساعدة الفقراء، السرقة، سوء معاملة والدته. فلو كانت هناك أى شائبة تربط البابا كيرلس بمقتل هيباتيا لاستخدمها هؤلاء ضده، أو حتى استخدمها نسطور. لكننا فى المقابل نجد صمت الجميع حيال الأمر، مما يدلل أنه ليس ثمة علاقة بين البابا كيرلس ومقتل الفيلسوفة هيباتيا.

وقد يتساءل القارئ: كيف نشأت فكرة مسئولية البابا كيرلس عن هذه الجريمة؟ أول من أنحى باللائمة على البابا كيرلس هو داماسكيوس Damascius فيلسوف الأفلاطونية المحدثة وآخر رئيس للأكاديمية قبل إغلاقها فى عهد جوستنيان عام 527م، فى كتابه "حياة إيسيدور". لكن لا يمكننا أن نستند على شهادة وحيدة لفيسلوف وثنى عاش 130 عامًا بعد الحدث، وقد كتب هذا فى عهد يوليانوس الامبراطور الذى أراد إحياء الديانة الوثنية، فكتب ذلك لأجل تشويه الكنيسة ويظهر ذلك جليًا فى أسلوبه العدائى للمسيحية والبابا كيرلس. 

وعن داماسكيوس نقلت الموسوعة البيزنطية Suda فى القرن العاشر الميلادى قصة مقتلها، وعنها أخذ تولاند وجيبون. وعلينا أن نلاحظ طريقة استخدام الاثنين للمأساة، فجيبون استخدمها فى نقده للمسيحية وتولاند فى نقده للكنيسة الكاثوليكية.  

لذلك لا يمكن حسبان هيباتيا كشهيدة لأسباب دينية، بل بالحرى يجب أن يُحسب موتها نتيجة مأساوية لعنف الرعاع نتيجةً للصراع السياسى بالأسكندرية.

لا يجب أن تقودنا العاطفة لتغيير التاريخ، ولا يجب أن تحولنا المأساة لجناة.  

وفى المقال المقبل، سنناقش حقيقة اسهامات هيباتيا فى الفلسفة والعلوم طبقًا للمصادر التاريخية القديمة. 

ملحوظة: الصور هى إضافة من الجورنال حيث لم أرسل أى صور للجريدة، لذلك نشروا صورة البابا كيرلس السادس بدلاً من البابا كيرلس الأول، فعذراً عن هذا الخطأ غير المقصود من الجريدة ...  

الجمعة، 28 فبراير 2014

الحجة ضد المعجزات، بقلم صموئيل طلعت

هناك مغالطة منطقية تُدعى بمغالطة الاستدلال الدائرى Circular reasoning وسأضرب لكم مثالاً لتلك المغالطة، يتساءل الملحد: "لماذا تحدث المعجزات؟" فيجيب المؤمن: "لأن الله موجود." فيسأل الملحد: "وما الدليل على وجود الله؟" فيجيب المؤمن: "حدوث المعجزات."

وجدتُ أحد أصدقائى الملحدين يرفض حدوث المعجزات لأن الله غير موجود بالنسبة له، ولأنه يؤمن بالعلم فقط، والمعجزة تكسر قوانين العلم فمن ثم المعجزات لا تحدث.  

المعجزات ليس لها تفسير علمى لأن لو كان لها تفسير علمى لمّ صارت معجزات !! المعجزة من وجهة نظرى حدث تاريخى يمكن أن نتحقق منه بآليات النقد التاريخى لكن لا يمكن نفى حدوث المعجزة لأن ليس لها تفسير علمى، هذا خطأ منطقى، فالمعجزة تدخل باب الإيمان، وهنا دعونى أناقش سؤال خطير: هل هناك إيمان فى العلم؟
يرفع الملحد يده بعقوق نافيًا عن العلم الإيمان، لكن فى الحقيقة إدعاء خلو العلم من الإيمان هو محض زيف واضح free of faith is manifestly bogus على حد تعبير الفيزيائى الانجليزى بول ديفيز[1]. ودعونى أضرب لكم مثالاً يدلل على كلامنا.

نقد كارل بوبر مبدأ الاستقراء موضحًا أن الدفاع عنه يسقطنا فى مغالطة الاستدلال الدائرى، فنجد راسل يرد بضرورة قبول هذا المبدأ "قبليًا" أو على حد تعبيره: "على أساس وضوحه الذاتى"[2] أو بصيغة أخرى أننا يجب أن نقبل (نؤمن بـ) هذا المبدأ لوضوحه لا لوجود تفسير علمى له!! وكذلك يتحدث المؤمن عن قبول المعجزات.

رفض ديفيد هيوم المعجزات بانيًا نقده على المنهج الاستقرائى حيث يقول: ""المعجزة هي خرق لقوانين الطبيعة؛ ولما كانت الخبرة الثابتة وغير القابلة بالخلل قد أقامت هذه القوانين، فإن الدليل الذى يعارض معجزة ما، بناء على طبيعة الواقعة عينها، لهو بكمال أى دليل متخيل يستمد من الخبرة."[3] من الملاحظة يستنتج هيوم قانونًا يعممه ويؤسس عليه التنبؤ بما سيحدث فى المستقبل، ولن أناقش هنا المنهج الاستقرائى ونقد كارل بوبر وبيير دوهيم لهذا المنهج، أو رفض هيوم شهادة شهود العيان والتشكك فى الثقة الأساسية لإدراك الحسى فهذا سأفرد له مقالاً مفصلاً لكن ما أحب التنويه له فى هذا المقال أن منهجه وحججه نُقدت فى الفلسفة المعاصرة، فكلٌ من الفيلسوف الأمريكى جون إيرمان John Earman (وهو لاأدرى المذهب agnostic) "Hume’s Abject Failure: The Argument Against Miracles فشل هيوم المدقع؛ الحجة ضد المعجزات" المنشور من قبل جامعة أكسفورد. والفيلسوف البريطانى ريتشارد سوينبرج Richard Swinburne (عضو بالكنيسة اليونانية الأرثوذكسية) فى ورقته " Miracles المعجزات" المنشورة فى The Philosophical Quarterly, Vol. 18, No. 73 (Oct., 1968). وقد أكدا الاثنان إنه لا توجد عاقبة منطقية أو فلسفية فى حدوث المعجزات، يقول ريتشارد سوينبرج: "إن استنتاجى الرئيسى، الذى عليّ تكراره، أنه لا توجد صعوبات منطقية فى فرض وجود دليل تاريخى قوى لحدوث المعجزات."[4]

من ثم فالأمر مطروح على الطاولة التاريخية. وعلى المؤرخ أن يطبق آليات النقد التاريخى على الأدلة المتوفرة للوصول إلى نظرية.

البعض يعترض على حدوث المعجزات بحجة أن أى شىء إحتمالية حدوثه أكبر جدًا من إحتمالية حدوث المعجزة، فعلى سبيل المثال؛ قيامة المسيح. قال بارت إيرمان فى مناظرته مع وليام لين كريج أنه ربما قاما اثنان من أفراد عائلة يسوع بسرقة جسده من القبر، وهما فى الطريق قُتلا ودفنا مع الجسد المسروق فى قبر شعبى. ربما لم يحدث هذا ولكنه أكثر إحتمالاً من التفسير القائل بقيامة السيد المسيح من الموت. خلاصة القول أن إحتمالية حدوث أى تفسير طبيعى للحدث يمكن تخيله أكبر من إحتمالية حدوث المعجزة.   

لكن الذى يرد على هذا المنهج هو أن قوة الإحتمالية تُقاس بمدى قابلية التفسير المطروح للتطبيق على كافة الأدلة المتوفرة. إن أفضل تفسير للدليل هو التفسير الذى يفسر "كل" قطعة من الدليل، ولا يترك قطعة منه. أفضل تفسير هو الذى لا يعتمد فرضيات لا يشهد بها الدليل المتوفر.[5]

ودعونى أوضح الأمر على مثال إيرمان، فمثلاً كيف يتم سرقة جسد المسيح دون أن يحس الحراس؟؟ وإن شعر الحراس بهم فلماذا لم يمنعوهم، وهم اثنين فقط أمام جماعة من الحراس؟؟ وإن كانوا قد استطاعوا الهرب من مجموعة الحراس ألم يستطيعوا أن يهربوا من مجموعة من قطاع الطرق؟؟ وكيف لا يوجد شاهد تاريخى أو أثرى على هذا الحدث؟؟

إن إيرمان ضرب هذا التفسير من باب المجادلة، قائلاً أنه على الرغم من عدم معقولية هذا التفسير إلا أن إحتمالية حدوثه أكبر من احتمالية حدوث معجزة القيامة. لكن سيظل القبر الفارغ، شهادة التلاميذ، وتغير موقفهم (من الهرب إلى المواجهة ودفع حياتهم ثمنًا لإدعاءهم قيامة يسوع). سيظل كل هذا بلا تفسير طبيعى.

بلغة العلم، مثال إيرمان لا يعدو كونه فرضية بينما قيامة المسيح نظرية[6]، قيامة المسيح هى التفسير الوحيد لـ "كل" الأحداث والأدلة المتوفرة لدينا.

هذه هى رؤيتى للمعجزات وإن كان الأمر يحتاج لدراسة أشمل.  

وأختتم مقالى بقول اينشتاين: "علم بدون دين معوق، ودين بدون علم أعمى"[7] أو دعونا نقولها بشكل أفضل: علم بدون دين سيكون فاقدًا للروح، ودين بدون علم سيكون فاقدًا للعقل.

صموئيل طلعت
1/3/2014  




[1] Paul Davies, "Taking Science on Faith", In: New York Times, (24-11-2007). http://www.nytimes.com/2007/11/24/opinion/24davies.html?pagewanted=2 [retrieved 28 February 2014]
[2] دونالد جيليز، فلسفة العلم فى القرن العشرين، ترجمة ودراسة: د. حسين على، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة، 2010م، ص 159
[3] دافيد هيوم، مبحث فى الفاهمة البشرية، ترجمة: د. موسى وهبة ، بيروت، لبنان، ط1، 2008م، ص 158
[4] Richard Swinburne, "Miracles", In: The Philosophical Quarterly, Vol. 18, No. 73 (Oct., 1968), p. 328
[5] فادى اليكساندر، المؤرخ والإعجاز ،
[6] الفرق بين النظرية theory والفرضية hypothesis هو أن النظرية هى نتيجة تجريب الفرضية بشكل علمى، لذلك الفرضية قد تكون صواب أو خطأ لكن النظرية من المفترض أن تكون صحيحة لأنها مبنية على طريقة علمية، فمثلاً عندما يلاحظ إنسان ظاهرة يفترض "فرضية" لسبب حدوثها ثم يبدأ فى عمل تجارب علمية، فإذا أثبتت التجارب صحة فرضيته، تصبح فرضيته "نظرية"، ولكن مع ذلك فالنظرية ليست مبرهنة ولكنها "الفرضية الأكثر قوة وإحتمالية لتفسير الظاهرة". دعونا نصيغها بشكل آخر، النظرية هى التى تستطيع تفسير كل الأدلة المتوفرة دون الوقوع فى تناقض.   
[7] "science without religion is lame, religion without science is blind." http://www.sacred-texts.com/aor/einstein/einsci.htm [retrieved 1 March 2014]

الجمعة، 7 فبراير 2014

وثنية المسيحية

وجدتُ موضوعًا منشورًا فى موقع إسلامى مُعنون بـ "المخلِّصُون الستة عشر المصلوبون فداءً للبشر"، بالموضوع كمّ هائل من الأخطاء، فقد وضع مؤلف الموضوع صورًا لصلب كريشنا (على الرغم من أن كريشنا مات بسبب سهم أصابه عن طريق الخطأ[1]) وصورًا لصلب بوذا (على الرغم من أن بوذا مات إثر وجبة سامة) ولكن الطامة الكبرى كانت هذه الصورة:



فتلك الصورة التى وصفها مؤلف الموضوع أنها صورة لصلب الإله ست الفرعونى هى فى الأصل صورة لصلب المسيح تعود لعام 420-430 ميلاديًا. وها هى الصورة الأصلية كاملةً بتعليق منى:



وها هو موقع المتحف البريطانى يشرح الصورة (اضغط هنا لفتحالموقع)

وانتظروا دراستنا فى العدد المقبل لدورية المبادئ عن كتاب "اللاهوت العربى" للدكتور يوسف زيدان، حيث أفردتُ فصلاً عن موضوع المسيحية وأصولها الوثنية ... فانتظروا العدد المقبل  




[1] Edwin F. Bryant, Krishna: A Sourcebook, Oxford University Press, 2007, p 148.