الأربعاء، 30 أكتوبر 2019

بين التراث النابض والتعصب الرابض


لا زالت صفحة «رابطة حماة الإيمان» تتحفنا بالأعاجيب، فقد أرسل لي أحدُ الأصدقاء منذ قليل منشورًا (Post) لهم يتحدثون فيه عن التراث العربي المسيحيّ. ينتقدون فيه هذا المجال البحثي الهام فيقول صاحب المقال: ”لا نستطيع أن تسمع رأي محدد من الباحثين أو تعريف محدد لهذا التراث فهل المقصود به التعاليم اللاهوتية المسيحية التي دونت باللغة العربية في القرون الوسطى بعد انقطاع اللسان العربي لأسباب عديدة ام ان هذا التراث هو تراث أصيل كتب باللغة العربية منذ البدء على يد لاهوتيين عرب؟“

إنَّه لو كلف نفسه عناء قراءة السطر الأول مِن مقدمة دراستي المنشورة عام 2015م (أي مِن أربع سنوات) لوجد فيها ما يروي ظمأه، ولرحمنا مِن هذا المنشور العجيب. فقد كتبت: ”اللاهوت العربيّ هو ذاك الذي صاغه المسيحيون بالعربيةِ لغةً وثقافةً.“[1] 

ونجد ذات التعريف في العديد مِن الكتب والأبحاث المتخصصة في التراث العربي المسيحيّ، نذكر مِنها على سبيل المثال لا الحصر:

- الأب سهيل قاشا، تاريخ التراث العربي المسيحيّ (جونية: منشورات الرسل، 2003م)،  ص ص 18-19

وسبحان الله، فقد افتتح حديثه بتساؤل صاحب المقال! حيث كتب: ”قد يتساءل البعض، ما المقصود بالتراث العربي المسيحيّ القديم؟“ ثُمَّ كَتَبَ تعريفًا مُفَصَّلاً شَغَلَ صفحتين.

- Fr. Gianmaria Gianazza, “Arabic Christian Heritage and its characteristics”, in: Al-Liqaʾ Journal, 2014; 42: 5-35   

ثُمَّ يكتب صاحب المقال أمرًا عجيبًا فيقول:

”بالتأكيد هناك اباء أقباط كتبوا باللغة العربية لا احد ينكر ذلك، وهناك معلمين وباحثين في تاريخ الكنيسة دونوا لنا كتابات كثيرة باللغة العربية ولكن المشكلة في المسمى التراث العربي المسيحي فهذه الكتابات او المخطوطات ليست تراث عربي لكنها تراث مسيحي قبطي كتبه أقباط تحدثوا العربية نقلوا فيه تراث مسيحي يخص الكنيسة القبطية لا علاقة له من قريب او بعيد بأي تراث عربي سواء أدبي او تاريخي او ثقافي لذلك فالمسمى هو المشكلة لان المسمى به نوع من الخلط وعدم الدقة وربما التزييف !!!“

وهنا يتبادر إلى ذهننا سؤال: هل أثناسيوس الرسوليّ وكيرلس السكندري، وهم بطاركة للكرسي السكندري الرسولي (الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة) يُصَنَّفُون أنَّهم آباء يونانيون أم آباء أقباط؟ تأتي الإجابة على لسان علماء الباترولوجي أنَّ الآباء يُصَنَّفُون حسب لغة كتاباتهم فيُقال آباء يونانيون أي كتبوا باليونانيّة مثل يوستينوس الشهيد، إيريناؤس، أثناسيوس الرسولي. وآباء لاتين أي كتبوا باللاتينية مثل: ترتليان، كبريانوس، هيلاري أسقف بواتييه. وآباء سريان أي كتبوا بالسريانيّة مثل: مار أفرام السريانيّ، أفراهاط. آباء أقباط أي كتبوا بالقبطيّة مثل: الأنبا شنودة رئيس المتوحدين.

ثُمَّ يختتم صاحب المقال مقاله بقوله: ”فلنطلق عليها دراسات في التعاليم المسيحية التي كتبت باللغة العربية او التراث القبطي المسيحي الذي دون باللغة العربية , او التراث المسيحي المدون باللغة العربية او اي مسمى صحيح يعبر عن حقيقة هذه الدراسات وهذا التراث الذي لا هو عربي ولا كتبه عرب هو فقط تراث مسيحي سواء قبطي او سرياني او يوناني نقل وتُرجم الي اللغة العربية !“

فهل حقًا ما قدمه اللاهوتيون العرب هو مجرد ترجمة للاهوت اليونانيّ أو القبطيّ أو السريانيّ؟

لا مراء أنَّ اللاهوتَ اليونانيَّ هو أحد روافد اللاهوت العربيّ، لكن للاهوت العربيّ خصائصه التي تميزه، وأوضح مثال على هذا، الشرح العربيّ لعقيدة التَّوحيد والتَّثليث. إنَّ أهمية دراسة الشرح العربيّ لعقيدة التَّوحيد والتَّثليث ليست قاصرة على فهم الجدل المسيحيّ/الإسلاميّ فقط بل تتجاوز ذلك لفهم اللاهوت العربي المعاصر؛ فلا زال لهذا الشرح العربيّ الوسيط صداه في كنائسنا العربية حتى يومنا هذا، فلا يمكننا أنَّ نفهم الشرح القبطيّ المعاصر لعقيدة الله الواحد الثالوث دونما نقرأ جذوره الممتدة في اللاهوت العربيّ، في أعمال أبي رائطة التكريتيّ، يحيى بن عدي، أبي قرة، عمار البصري، ساويرس بن المقفع، بولس البوشي، وأبي الفضل بن العسال. فاللاهوت القبطي المعاصر هو نتاج تمازج اللاهوت اليونانيّ باللاهوت العربيّ، وليس كما هو مشهور بأنَّه مجرد امتداد للاهوت السكندريّ.

وأنا أعدُّ حاليًا كتابًا كاملاً عن هذا الموضوع بعنوان: «جدليّة التَّوحيد: قراءة معاصرة للاهوت العربيّ الوسيط» سيُنشر العام المقبل إن شاء الله.   

محاضرتي بالمؤتمر 26 لأصدقاء التراث العربيّ المسيحيّ والذي نظمه مركز دراسات مسيحية الشرق الأوسط في فبراير عام 2018م .. 






[1] صموئيل طلعت، ”معضلة التَّوحيد المُطلق: مقاربة معاصرة للاهوت العربي“، في: دورية مدرسة الإسكندرية، العدد 19، 2015م، ص  185
وهي عبارة عن الترجمة العربية لمحاضرتي  في المؤتمر العربي المسيحي الثالث بجامعة الروح القدس في الكسليك ببيروت عام 2015م، والتي نُشرت في:
Samuel Armanious, “The Dilemma of Absolute Monotheism: A contemporary Approach to Arabic Theology”, in: Parole de l' Orient, 2016; 42: 55-77