لماذا تجسد الله؟
قد يبدو لك عزيزي القارئ أنَّ السؤال بسيطٌ وأنَّ إجابته
معروفةٌ؛ فالله الابن قد تجسد كيما يفدي الإنسان مِن رباطات الخطيّةِ ويخلصه مِن
الفساد الذي تسلل إلى طبيعته بعد السقوط.
نعم، تلك هي الإجابة الشائعة بين المؤمنين في كنائسنا،
لكن ماذا لو لم يسقط الإنسان، أكان الله حينها سيتجسد؟ أو دعونا نصيغها بشكلٍ آخر:
هل التجسد كان مشروطًا بالسقوط والفداء؟
هذا السؤال لم يشغل فِكْر آباء الكنيسة الأولين إلا أنه
شغل فِكْر العديد مِن اللاهوتيين بدءً مِن مكسيموس المعترف مرورًا بدانس سكوت
وصولاً بغريغوريوس بالاماس وغيرهم. كانت إجابة هؤلاء مُخالفة للفكرة الشائعة،
فالتجسد بالنسبة لهم ليس مشروطًا لا بالسقوط ولا بالفداء، فحتى لو لم يسقط الإنسان
لكان الله قد تجسد، لأن المعنى الحقيقي للخلاص هو اتحاد الإلهي بالإنساني، وغاية
الخلق هو التألُّه، وما كان للإنسان أن يتألَّه إلا بتأنس الإله.
بالطبع قد يتبادر لذهنك عزيزي القارئ ذلك السؤال
المنطقي: وما هي أهمية تلك الدراسة؟ فما كان قد كان، فما الذي يُعنينا إن كان
التجسد مستقلاً عن السقوط أم لا؟
إنَّ أهمية تلك الدراسة تكمن في إنها مجرد محاولة لبناء
نظام لاهوتيّ غير قائم على قصة السقوط الواردة في سفر التكوين. فهؤلاء الذين
يعتقدون بصحة نظرية التطور وبأسطورية قصة الخلق التكوينية لا يكفوا عن طرح السؤال
اللاهوتيّ: لماذا الله قد تجسد إنْ لم يكن هناك آدم وحواء مِن الأساس فما بالك
بالسقوط؟!
إنني كما ناديت في كتابي «العلم اللاَّ معقول: إشكالية
العلاقة بين الدين والعلم» بضرورة التمييز لا الفصل بين الخطابين العلميّ
واللاهوتيّ، فالخطاب العلميّ ينصب اهتمامه على إجابة سؤال «كيف؟» بينما الخطاب
اللاهوتيّ ينصب اهتمامه على إجابة سؤال «لماذا؟»، وكلا السؤالان يشغلان فكر
الإنسانية.
فعلى مدار صفحات الدراسة رأينا أنَّ المسيح، الكلمة
المتأنس، هو أصل الخليقة وغايتها، هو السرُ في عمليّة التطور، هو المرآة الحقيقية لاكتمال الإنسانية، لذلك فإن
الإنسانية تتّجه نحوه، تتطّور نحوه وترتقي.
إنَّ
التعبير الأنسب مِن السقوط الإنسانيّ هو السَّقطُ الإنسانيّ[1]،
أيّ أن الإنسان قد خُلق جنينًا غير مكتمل النمو لكنه يجنح لتحقيق الكمال. فالسقوط
الإنساني الذي صوره كاتب سفر التكوين بصورةٍ رمزية في شخصيتي آدم وحواء لم يكن
حدثًا تاريخيًا بل واقعًا تعيشه الإنسانية جمعاء عبر تاريخها، فسقوطها هو فشلها
لتحقيق الكمال وبلوغ الأبدية بعيدًا عن الله. فقصة السقوط التكوينية ليست قصةً عن
ماضي الإنسانية بل عن حاضرها الذي ما كان له أن يتغير دون تجسد الألوهةِ. فسعي الإنسانية
نحو الكمال والأبدية ما له أن يتحقق دون شركة الله. فالتجسد؛ اتحاد المخلوق بغير المخلوق، هو مفتاح فِهمنا لفعل الخلق الإلهيّ.
وبهذا نكون قد
فهمنا التجسد بمعزل عن السقوط، لكن يَبَقى السؤال: لماذا يموت المسيح إنْ لم يكن
آدم قد سقط؟
يمكننا القول بخصوص قضية موت المسيح، أنَّ الله بتأنسه قد عبر هذه الهوة الأنطولوجية بين الخالق والمخلوق، لكن نتاج هذه الهوة (الموت) لم يكن قد عبره بعد بالتجسد، لكن بموته عبر الموت، وانتصر عليه بقيامته. عليّنا أنْ نضع دائمًا صوب أعيننا ذلك المبدأ الآبائي: ما لا يُؤخذ لا يخلص. وهو المبدأ الذي تُرجم ليتورجيًا في ثيؤطوكية الجمعة: هو أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له. فلو لم يعبر الابن الموت لما أخذنا نحن الحياة.
الدراسة صغيرة الحجم، فقط عشرين صفحة، والدراسة هي أولى مشاركاتي في مبادرة آليثيا للتعليم الأرثوذكسي، لتحميل الدراسة (اضغط هنا)
[1] راجع دراسة: جون إدوارد،
”تكوين التكوين“، في: دورية المبادئ، السنة الأولى، العدد الثاني، ص ص
34-47